بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد،
اسمحوا لي في مستهل هذه الكلمة، أن أعبر لكم عن اعتزازي الكبير بالمشاركة في أشغال هذه الندوة العلمية المتميزة بدعوة كريمة من معالي الوزير المنتدب المكلف بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة الفاضل المحترم السيد عبد الكريم بن عتيق الذي يعبر بمبادراته وديناميته عن تكريس حقيقي لقيم الشراكة والانفتاح والتواصل وإيمان صادق بمكانة السلطة القضائية في تدبير القضايا الكبرى للوطن وإيجاد مقاربات فعالة للإشكالات الواقعية والانتظارات الحقيقية للمواطنين.
وأغتنم هذه المناسبة لأعبر لكم معالي الوزير عن تقديري لكل جهودكم المتميزة شاكرا عنايتكم ومؤكدا لكم حرصنا التام على تفعيل كل آليات التعاون خدمة للعدالة ببلادنا بكل مسؤولية ووطنية.
والشكر موصول لكل أعضاء شبكة المحامين المغاربة المقيمين بالخارج، سفراء المغرب عبر العالم، الذين يؤكدون اليوم من خلال عقد هذا المنتدى الثالث على أن البذرة الطيبة صارت شجرة تورق وتثمر في كل ربوع العالم .
فهنيئا لنا جميعا بهذا الحدث المتميز الذي اخترتم له مدينة مراكش ، النموذج الأمثل للفقه الأصيل المتجذر عبر ليالي التاريخ الأولى، وللروح المتفتحة بصيغة عالمية متجددة، وكل الدعاء لأشغالكم بالتوفيق والسداد.
الحضور الكريم؛
أكيد أننا اليوم ونحن نحتفي بالذكرى 15 لصدور مدونة الأسرة، لابد أن نتذكر بكثير من الفخر والاعتزاز هذا الحدث التاريخي المتميز والمنعطف الحاسم في سياق المشروع المجتمعي الديموقراطي الذي ارتضاه المغاربة وتوافقوا عليه ، القائم على إنصاف المرأة وصيانة كرامة الرجل وحماية حقوق الطفل.
حدث متميز في سياقه وإعداده ومنهجيته عبرعن التعددية الفكرية والاجتهاد المبدع للإنسان المغربي الملتزم بقيم حقوق الإنسان ومبادئها، الباحث عن حلول متوازنة ومنصفة وعملية لأحوال الأسرة وقضاياها، وهو ما أهل هذا النص القانوني لينال إشعاعا وطنيا ودوليا ويتم وصفه بالثورة القانونية والاجتماعية الهادئة.
لكن الأكيد أيضا، أن التطورات المتسارعة التي يعرفها العالم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، رفعت من سقف التحديات الموضوعة أمام كل الدول وأدت إلى ظهور مفاهيم جديدة غيرت من هيكلة بنية المجتمعات وطبيعة العلاقات، وأفرزت قيما جديدة جعلت من مدونة الأسرة وكل الترسانة القانونية المرتبطة بقضايا الأسرة تقف عاجزة عن الإحاطة بكافة النوازل والأقضية بحكم صيرورة التغيير وحتميته.
وهو ما أكده جلالة الملك في رسالته الموجهة إلى المشاركين في المؤتمر الإسلامي الخامس للوزراء المكلفين الطفولة بقوله السامي : " ...كما عملنا على تعزيز تماسك الأسرة، من خلال اعتماد مدونة متقدمة للأسرة تراعي المصلحة الفضلى للطفل وتصون حقوقه في كل الظروف والأحوال داعين إلى مواكبتها بالتقييم والتقويم لمعالجة النقائص التي أبانت عنها التجربة "... انتهى النطق الملكي السامي.
السيدات والسادة الأفاضل؛
إن أي متتبع موضوعي سيؤكد بعد 15 سنة من التطبيق، المجهود الكبير الذي بذله قاضياتنا وقضاتنا من أجل تفعيل أمثل لنصوص مدونة الأسرة ولكافة القوانين المرتبطة بها رغم السياقات المجتمعية المعقدة والبنيات البشرية اللوجستيكية غير الكافية.
تطبيق تساهم فيه كل مكونات أسرة العدالة دون استثناء إضافة إلى متدخلين آخرين يمثلون سلطات ومؤسسات عمومية متعددة، من أجل الوصول إلى الأمن الأسري المنشود.
15 سنة اظهر فيها القضاء الأسري المغربي قدرته على إخضاع القانون لسنة التطور، وعلى تقريب المسافة بين الحقيقة الواقعية والحقيقة القانونية، والتفاعل الايجابي مع التحولات الاجتماعية والثقافية والتعامل السلس مع القضايا الأسرية ذات البعد الدولي خاصة تلك المتعلقة بمغاربة العالم.
وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض القرارات المبدئية الهامة التي تحمل نفحة حقوقية ومقاربة حمائية استند فيها قضاتنا على مرجعية اجتهادية وقراءة مقاصدية للنصوص ونظر في المآلات مستهدفين تكريس قيم المساواة والعدل والمعاشرة بالمعروف بين مكونات الأسرة خاصة بين الزوجين، ومراعاة كل الأوضاع الخاصة ذات البعد الأجنبي.
وفي هذا الاتجاه أشير إلى أن محكمة النقض وهي تنظر في طعن يتعلق بعقد زواج مبرم خارج المغرب، أكدت على أن ركن الزواج هو توافر الرضى، وأن حضور شاهدين مسلمين يكون عند إبرام العقد، أما وقد انعقد بين طرفيه وأقرا به ، فإن الدفع بعدم حضور شاهدين مسلمين عند إبرامه أصبح متجاوزا ويبقى العقد صحيحا منتجا لجميع أثاره وغير مخالف للنظام العام المغربي.
وفي إطار تفعيل الاتفاقيات القضائية الثنائية، أكدت محكمة النقض - تطبيقا للاتفاقية المغربية الفرنسية- على أنه إذا قدمت دعوى أمام محكمة إحدى الدولتين وقدمت ثانية بين نفس الأطراف وفي نفس الموضوع أمام محكمة الدولة الأخرى فيجب على المحكمة المحال إليها الدعوى الثانية أن ترجىء البت فيها، تفاديا لآي تعارض بين الأحكام قد يخلق أوضاعا أسرية متناقضة.
وتفاعلا مع القيمة الثبوتية للأحكام الأجنبية عابت محكمة النقض على محكمة الموضوع عدم مناقشتها للحكم الصادر عن القضاء الأجنبي المذيل بالصيغة التنفيذية والذي قضى بالطلاق بالتراضي وحدد مسؤولية كل طرف وجميع حقوق الأبناء رغم مال لهذا الحكم من تأثير على القضية المعروضة أمامها.
وفي نفس الاتجاه أكدت محكمة النقض أن الأحكام الأجنبية تكون حجة فيما فصلت فيه وترتب آثارها من تاريخ صدورها، وإن عدم تذييلها بالصيغة التنفيذية لا ينقص من حجيتها.
وحماية لحقوق الطفل، سهرت محكمة النقض على ضبط شروط تطبيق اتفاقية لاهاي الخاصة بالجوانب المدنية للاختطاف الدولي للأطفال موضحة أن ذلك التطبيق يتم حينما يكون نقل هذا الطفل أو احتجازه عملا غير مشروع و ذلك قصد ضمان إعادته فوريا.
ورعيا منها للمصلحة الفضلى للطفل المحضون ، اعتبرت أن هذه المصلحة تكمن في إرجاعه مع والدته لفرنسا، حيث يقيم ويدرس استنادا على مقتضيات اتفاقية لا هاي الواجبة التطبيق على نازلة الحال دون سواها.
وفي نفس الإطار وتقديرا منها لمصلحة الطفل، قررت محكمة النقض عدم جواز تعديل نظام الزيارة والحضانة، ما دام أن ارتباط المحضون بالأم الحاضنة لازال قويا لدرجة لا يمكن فراقه عنها في البلد، فبالأحرى أن يتم السفر به خارجه.
وحماية للأموال المكتسبة أثناء قيام العلاقة الزوجية، أكدت محكمة النقض على وجوب إثبات ما عمله الطرف المدعي وما قدمه من مجهود وما تحمله باعتباره شريكا في العقار المطالب بحصة منه، عملا بقواعد الإثبات العامة التي يتعين الرجوع إليها كلما انتفى الاتفاق بين الطرفين.
وهي بعض النماذج التي تؤكد توجه القضاء المغربي إلى تبني مقاربة متوازنة موضوعية تعلي من قيمة الاتفاقيات الدولية والحقوق الدستورية الأساسية وتراعي خصوصية القضايا التي يتدخل فيها عنصر أجنبي دون إخلال بنص وروح مدونة الأسرة المغربية.
ويبقى على القضاء الأجنبي التفاعل بدوره بنفس المقاربة والمنهجية مع القضايا التي يكون المواطنون المغاربة طرفا فيها وألا يعقد الكثير من أوضاعها الأسرية بعلل وذرائع مختلفة.
إن العولمة تفرض علينا اليوم جميعا توحيد جهودنا ومعاييرنا بخصوص القضايا المشتركة حتى نستطيع حل الإشكاليات وضمان الأمن الأسري للجميع، وهذا مجال سيكون لشبكة المحامين المغاربة عبر العالم دور كبير للمساهمة فيه وبذل كل الجهود لخلق جسور للتواصل خاصة مع الدول التي تعرف قضايا أسرية كثيرة للمواطنين المغاربة.
الحضور الكريم؛
لقد وضعنا في صلب رؤيتنا الاستراتيجية، وضع كل الآليات للسهر على حماية وضمان حقوق مغاربة العالم كمكون أساسي للمجتمع المغربي والتفكير في حلول ومقاربات تراعي خصوصية واقعهم وهشاشة أوضاع فئات كبيرة منهم، ونحن عاقدون العزم على استثمار كل الفرص المتاحة من أجل تحقيق هذه الأهداف وبلوغ هاته الغايات.
وهنا لا بد من التذكير بأننا على مستوى محكمة النقض المغربية باعتبارها على رأس الهرم القضائي المغربي لم ندخر جهدا على مستوى الإدارة القضائية من أجل تجويد الخدمات، وتحقيق النجاعة، والحرص على التطبيق العادل للقانون بمعايير دولية وبمقاربة حقوقية تعمل على كفالة حقوق المغاربة عبر العالم، وإيجاد حلول الإشكاليات التي يثيرها اختلاف النظم والأنساق القانونية وتضارب مفهوم النظام العام وتأثير ذلك على الأسرة المغربية .
كما عملنا منذ تحملنا مسؤولية رئاسة هذه المؤسسة الغراء على نسج علاقات متميزة خاصة مع الدول التي تضم أعدادا هامة من مغاربة المهجر آخرها دولة بلجيكا حيث ارتبطنا معها باتفاقيات شراكة تتيح لنا تنظيم لقاءات علمية تواصلية متعددة وتبادل الخبرات والوثائق بخصوص قضايا الهجرة والمهاجرين قصد تذليل كل الصعوبات والعراقيل ذات الطبيعة القانونية والقضائية، كما فتحنا أبواب محكمة النقض أمام الطلبة المغاربة المقيمين بالخارج حيث يزرون مقرها سنويا عشرات الوفود خاصة من هولندا وتكون مناسبة لهم ومرافقيهم الأجانب للاطلاع على حقيقة التطورات الهامة التي تعرفها بلادنا في المجال القانوني والقضائي الأسري.
السيدات والسادة؛
لا شك أننا اليوم من خلال برنامج هذا اللقاء العلمي المتميز، سنكون أمام فرصة مثلى للاطلاع على التجارب المقارنة والممارسات الفضلى والأنظمة التشريعية الدولية الناجعة مما سيتيح لنا بكل تأكيد خلق فضاء للحوار الجاد البناء والتقييم الموضوعي المنفتح سيساهم فيه ثلة خيرة من الخبراء والمهنيين والأكاديميين والحقوقيين حتى نرصد أهم الثغرات ونؤشر على أهم التوجهات والآفاق ونحن نحتفي بالذكرى 15 لمدونة الأسرة المغربية.
ولي اليقين، أن منتدى محامين المغاربة المقيمين بالخارج سيبقى موعدا أساسيا وإطارا متميزا لنقاش قانوني مهني وحقوقي رصين بروح وطنية مسؤولة وأبعاد دولية واسعة.
واسمحوا لي أن أؤكد لكم مرة أخرى على أننا سنكون دائما معكم من أجل تعبئة كل الطاقات وتقوية هذه الشبكة ودعم أنشطتها ومبادراتها ومشاريعها، وأبوابنا مفتوحة لكل تصوراتكم من أجل إعداد برامج عمل مشتركة برؤية واضحة وأهداف محددة خدمة للثوابت الوطنية وانتصارا للمشاريع الإصلاحية الكبرى التي يقودها جلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتمكين.
جلالته الذي لخص في خطاب عظيم المضامين ، بليغ الأثر ما يجب أن يكون عليه جميعا عندما عبر جلالته مخاطبا الأمة عبر نوابها شهر أكتوبر سنة 2014: " .... فإن أغلى إحساس عندي في حياتي هو اعتزازي بمغربيتي. وأنتم أيضا، يجب أن تعبروا عن هذا الاعتزاز بالوطن، وأن تجسدوه كل يوم، وفي كل لحظة، في عملكم وتعاملكم، وفي خطاباتكم، وفي بيوتكم، وفي القيام بمسؤولياتكم".
مضيفا في خطابه التاريخي: ".... و الاعتزاز لا يعني الانغلاق على الذات، أو التعالي على الآخر. فالمغاربة معروفون بالانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات "..انتهى النطق الملكي السامي.
كل التوفيق لأشغال هذا اللقاء الهام، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛
زنقة الرياض، قطاع 16 حي الرياض، ص.ب 1789 الرباط
sg@cspj.ma