حضرات السيدات والسادة ؛
رفع الله من شأن الإنسان فقال في محكم كتابه "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، وتعزيزاً لهذه المكانة السامية فقد وهب الله الإنسان حقوقاً وحرم الاعتداء عليها، وجاءت جل الشرائع السماوية مؤكدة لذلك، حيث بينت هذه الحقوق وسنت قواعد صارمة للمحافظة عليها ومعاقبة من ينتهك حرمتها.
لقد لقيت حقوق الإنسان وحرياته ومناهضة تعذيبه اهتماماً دولياً متزايداً بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما على صعيد الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، حيث أدرجت ضمن المقاصد الأساسية لعملها وصدر بشأنها العديد من المواثيق والآليات التي تفرض على كافة دول العالم الالتزام بها وتطبيقها، خاصة تلك المتعلقة بحماية الإنسان من التعذيب وشتى ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
وعليه، فإن بشاعة جريمة التعذيب جعلت من مناهضته وتجريمه، في شتى صوره، التزاما تفرضه قواعد القانون الدولي الإنساني الآمرة قبل أن يكون التزاما بمقتضى اتفاقية أو ميثاق.
ولقد سارعت بلادنا، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، إلى الانخراط على الدوام في الجهود الدولية لصيانة حرمة الإنسان وكرامته، وتفاعلت بكل دينامية مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان من خلال المصادقة على المعاهدات الدولية الرئيسية المتعلقة بها، وكذا التقديم المنتظم لتقاريرها إلى لجان الرصد المحدثة بموجب هذه المعاهدات، ومنها على الخصوص تلك المتعلقة بمناهضة التعذيب، إضافة إلى التفاعل الدائم مع التوصيات الصادرة عنها. كما حرص المغرب وطنيا على الرقي بحظر التعذيب إلى مقتضى دستوري راسخ يمنع ممارسته في كل أشكاله وصوره، حيث شكل دستور المملكة لسنة 2011 ميثاقا حقيقيا للحريات والحقوق الأساسية يتلاءم مع المرجعية الكونية في مختلف تجلياتها.
ولعل تنظيم فعاليات ندوة دولية في موضوع "المعايير والممارسات المتعلقة بالوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية"، ما هو إلا تكريس لهذه الجهود، وتعبير ملموس على السعي الدائم لمؤسسات بلادنا المواطنة، وتطلعها إلى صون مجد الأُّمَّة المغربية كأُمَّةٍ للكرامة والحرية والمواطنة والمسؤولية ووحدة الصف، وهو المجد الذي استحقت معه المكانة التي تليق بتاريخها العريق.
فبهذه المناسبة، يطيب لي أن أشارككم اليوم، فعاليات هذه الندوة التي تتجدد معها أواصر التعاون الهادف والمثمر بين المديرية العامة للأمن الوطني وباقي الفاعلين في مجال حماية حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها في المواثيق والبرتوكولات والأعراف والممارسات الوطنية والدولية. وهي فرصة أغتنمها لأعرب للسيد المدير العام للإدارة العامة للأمن الوطني عن خالص الشكر والامتنان على الدعوة الكريمة، وعن العرفان الراسخ بأهمية دور الشرطة القضائية في احترام حقوق الأشخاص، سواء أثناء البحث أو الإيقاف أو الوضع تحت تدابير الحراسة النظرية، ومعاملة الموقوفين وفق ما يقتضيه نبل المهمة ويقظة الضمير المهني، والتفاني في خدمة المواطن والوطن.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
لقد دأبت مؤسسات بلادنا التي أناط بها الدستور مهام النهوض بالحقوق والذود عن الحريات، وعلى رأسها المجلس الوطني لحقوق الانسان، على الترافع الدائم في سبيل صيانة كرامة المواطنات والمواطنين، حيث تكللت الجهود المتضافرة في هذا المجال بإحداث الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب بموجب القانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
كما تمت تقوية الإطار القانوني لمكافحة التعذيب بإصدار القانون رقم 77.17 المتعلق بتنظيم ممارسة مهام الطب الشرعي خلال سنة 2020، باعتباره إحدى المهن المساعدة للقضاء، والمساهمة في إنجاز التحقيقات والأبحاث والتحريات عبر اعتماد الأدلة العلمية الدامغة وما توفره التكنولوجيات الحديثة من إمكانيات هامة في هذا المجال.
والأكيد أن هذا اللقاء الهام، الذي يعقب إبرام اتفاقية للتعاون المشترك بين المديرية العامة للأمن الوطني والمجلس الوطني لحقوق الانسان، ليعكس روح المبادرة العلمية والحقوقية المتميزة للمؤسستين معا، وانفتاحهما على محيطهما الوطني والدولي، وهي المبادرة التي لا نملك أمامها إلا الإشادة والفخر والاعتزاز بالإنجازات التي تحققت مع انخراط المديرية العامة للأمن الوطني في السنين الأخيرة في المسار الإصلاحي لبلادنا لتعزيز ودعم حقوق الإنسان، من خلال بناء شرطة عصرية بكفاءات عالية، شرطة مواطنة مسخرة لخدمة المواطن ومنفتحة على مختلف الفاعلين في مجال حماية حقوق الانسان، داعمة لكل إجراءات الوقاية من التعذيب والمعاملة السيئة، حريصة على تعزيز الضمانات القانونية للأشخاص الخاضعين للبحث الجنائي.
كما أن هذا اللقاء هو أيضا مناسبة للوقوف على أبرز المكتسبات التي أحرزتها منظومة العدالة الجنائية ببلادنا في مجال مناهضة التعذيب، وفرصة للتحسيس بحجم التحديات التي تواجه هذه المنظومة في سعيها الدؤوب لضمان التوازن بين متطلبات حفظ الأمن والنظام العامين واحترام حقوق الإنسان وصيانتها.
حضرات السيدات والسادة الكرام؛
ولأن تطبيق آليات حقوق الإنسان في مجال مكافحة التعذيب يتطلب إلماما بتقنياته، عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، في إطار مهامه الدستورية، على تعزيز قدرات السادة القضاة في هذا المجال، حرصا منه على الرفع من نجاعة أدائهم وصقل مهاراتهم، وذلك انطلاقا من قناعة راسخة بأهمية التكوين والتكوين المستمر للقضاة، الذين أناط بهم الدستور مسؤولية حماية حقوق الأشخاص وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق ضمانات محاكمتهم العادلة. وقد حظيت الأنشطة الموجهة للقضاة في مجال التدريب والتوعية بإشادة لجنة مناهضة التعذيب في مناسبات مختلفة.
هذا، وفي إطار التفاعل القضائي مع التزامات بلادنا في مجال حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، راكمت السلطة القضائية العديد من الممارسات القضائية الفضلى على مستوى مختلف محاكم المملكة، في قضايا ذات الارتباط بتكريس المبادئ الدستورية الأساسية المتمثلة في احترام شروط المحاكمة العادلة، إضافة إلى أعمال الرقابة التي يقوم بها قضاة النيابة العامة، والمتمثلة في الزيارات الأسبوعية لمخافر الشرطة والدرك، للتحقق من شرعية الاعتقال وظروفه، والتفاعل مع مختلف الدفوع المقدمة أمامها، وكذا زيارات السجون لتتبع وضعية الأشخاص المودعين تحت هذا التدبير، والتي يحرص المجلس الأعلى للسلطة القضائية على انتظامها، وحث القضاة على إنجاز تقارير دورية بخصوصها، علاوة على الرقابة التي تمارسها محكمة النقض على طلبات التسليم في إطار التعاون القضائي الدولي.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية إذ يؤكد على انخراطه التام في كل الجهود المبذولة لتعزيز المنظومة القانونية والقضائية لبلادنا في مجال مناهضة التعذيب، وكذا لضمان تمتيع كل المواطنين والمقيمين على أراضي المملكة من طنجة إلى لكويرة بكل الضمانات والحقوق المكفولة لهم في المواثيق الدولية وفي التشريعات الوطنية، ليجدد استعداده لمواصلة دعم كل المبادرات التي من شأنها الرقي والرفع من نجاعة منظومة الحماية المذكورة.
ولي اليقين أن هذه الندوة الدولية المتميزة ستكون مجالا خصبا للنقاش الرصين، وتقاسم الخبرات والتجارب المتعلقة بالممارسات الجيدة في تنفيذ الضمانات القانونية للوقاية من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، التي قد ترتكب أثناء الإيقاف أو الوضع تحت تدابير الحراسة النظرية أو الاستجواب، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية عازم على تتبع وتنفيذ كافة التوصيات التي ستتمخض عنها، خاصة تلك المتعلقة بالشأن القضائي. والله أسأل أن يوفقكم في أشغال هذه الندوة وأن يجعل النجاح حليفكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
زنقة الرياض، قطاع 16 حي الرياض، ص.ب 1789 الرباط
sg@cspj.ma