حضرات السيدات والسادة؛
في يوم 17 يونيو سنة 2011، أعلن جلالة الملك حفظه الله، في خطابٍ للأمة، خُصِّصَ لتقديم دستور 2011، أن القانون الأساسي المعروض على الاستفتاء، عمد إلى " دسترة كافة حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً، بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها. وهو ما سيجعل من الدستور المغربي، دستورا لحقوق الإنسان، وميثاقا لحقوق وواجبات المواطنة".
ولم تكتف المملكة بدسترة حقوق الإنسان، ولكنها وضعت لها هيئات ومؤسسات لحمايتها ونشرها وإشاعتها. وقد دعا جلالة الملك هذه المؤسسات في رسالته السامية الموجهة بمناسبة الذكرى السبعين لإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالقول السامي:" أدعو جميع المؤسسات والهيئات المعنية، لمواصلة الجهود من أجل القيام بدورها في الدفاع عن حقوق الإنسان في كل أبعادها، وزيادة إشعاعها، ثقافةً وممارسةً، وذلك في نطاق الالتزام بروح المسؤولية والمواطنة، التي تتلاءم فيها ممارسة الحقوق والحريات بأداء الواجبات".
حضرات السيدات والسادة؛
أنا سعيد باستذكار هذه الدرر الغالية في بداية هذه الكلمة، لكونها تُؤَطر لموضوع هذا اللقاء. كما أنني سعيد جدًّا بتواجدي بينكم اليوم لحضور فعاليات هذه الندوة الوطنية الهامة، التي ستضيف، لا محالة، لبنة جديدة إلى بنيات المحاكمة العادلة، وتعزز تماسك صفوف الجهات الأساسية المعنية بها (القضاء والدفاع)، لترسيخها وتقوية أسسها. وهي مناسبة أغتنمُها لأعرب للسيد نقيب هيئة المحامين بأكادير كلميم العيون، ولكافة أعضاء هيئة الدفاع بها، عن خالص الشكر والامتنان على هذه المبادرة القيمة التي تتيح لنا مجددا التأكيد على أهمية دور المحاماة في خدمة العدالة والدفاع عن الحقوق والحريات امتثالا للواجب المهني النبيل.
حضرات السيدات والسادة الكرام؛
لا شك أن تنظيم ندوة وطنية بشراكة بين السلطة القضائية وأسرة الدفاع، لهو فرصة لتدارس جانب هام من شؤون العدالة ببلادنا، في موضوع يهمهما ربَّما أكثر من غيرهما من المعنيين بفض النزاعات وتدبير المحاكمات، ألا وهو موضوع "المحاكمة العادلة". ولعل التطرق لهذا الموضوع في لقاءات علمية متوالية بحضور مجموعة من الفاعلين في مجال العدالة، إنما يعكس إيماننا الثابت وقناعتنا الراسخة بأن المحاكمة العادلة هي عماد دولة القانون، لأنها تختزل الانتصار للمبادئ الإنسانية السامية التي تكرس مبادئ العدالة والإنصاف.
ولعل تناول موضوع "المحاكمة العادلة في ظل دستور 2011، بعد عشر سنوات من نفاذ مفعوله"، يعود بنا إلى الدور المتميز، الذي قام به رجال القانون المتمرسين، وفي مقدمتهم القضاة والمحامون، الذين ساهموا بأحكامهم ومذكراتهم ومرافعاتهم وكتاباتهم، في النقاش الحقوقي الذي واكب إصدار قانون المسطرة الجنائية سنة 2003. وقاموا بطرح الإكراهات العملية وإبراز جوانب القوة والقصور في مقتضيات قانون المسطرة الجنائية السابق، وقانون الإجراءات الانتقالية لسنة 1974. وما زال الكم الهائل من المقالات والمذكرات والآراء التي دبجها نخبة من القضاة والمحامين بالتزامن مع مناقشة مشروع القانون المذكور حاضراً. بالإضافة إلى مشاركاتهم القيمة في عدة ندوات وأيام دراسية ولقاءات نُظمت على هامش ذلك. وهو ما جعل المغرب يتوفر على قانون إجرائي متقدم وفي مستوى المكانة والاعتبار اللذين تحظى بهما حقوق الإنسان ببلادنا، يتضمن رصيداً وافراً من المبادئ والضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة. بحيث أقر مبدأ قرينة البراءة في مادته الأولى، ورتب عنه عدة مقتضيات إجرائية تحمي حقوق وحريات المشتبه فيهم والمتهمين. مما جعل قرينة البراءة تلازمهم إلى حين نهاية الإجراءات بحكم قطعي بالإدانة. كما منح للقضاء دورا فعالا في مراقبة وتقييم وسائل الإثبات، وعمل على تقوية دور المحامي أثناء البحث التمهيدي وخلال مراحل سير الدعوى العمومية. ونظم حماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين، وما إلى ذلك من المبادئ والضمانات، التي لا شك سيتوسع المتدخلون في هذه الندوة في تحليل مضامينها وحدودها وآفاق تطويرها.
حضرات السيدات والسادة؛
لئن كانت المحاكمة العادلة في بعدها القانوني تستلزم من القضاء والدفاع الحرص على التفعيل الجيد والدقيق للضمانات القانونية المقررة للمتهمين وباقي الأطراف، بما يستلزم من المحاكم الدراسة المعمقة للملفات والاستماع بعناية للطلبات، والتطبيق العادل للقانون بشأنها وفي الأمد المعقول. كما تَستلزم من أعضاء الدفاع بذل العناية اللازمة لمؤازرة موكليهم، والسعي بالوسائل القانونية المقررة، للبحث عن الحقيقة، بما يقتضيه ذلك من عرض الأدلة ومناقشة الوقائع والنصوص المطبقة عليها، فإنها تقتضي من كل طرف الوفاء بالتزاماته القانونية، وأداء الدور المنوط به بعناية واهتمام. بما في ذلك الانصياع الإرادي لقرارات المحكمة، ولو في حالة عدم قبولها. فدولة القانون والمؤسسات تعني الاحتكام إلى القانون باعتباره أسمى تعبير عن ضمير الأمة، واحترام أحكام القضاء، حتى في حالة المجادلة فيها، هذه المجادلة التي يجب أن تتم وفقا لما ينص عليه القانون. وقد قرر الدستور مبدأ استقلال القضاء ليتمكن القضاة من النطق بأحكامهم تحت تأثير التطبيق العادل للقانون وحده. والتطبيق العادل للقانون، لا يتوقف على استقلال القضاة في أحكامهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، وعن سلطة رؤسائهم القضائيين فقط، ولكن كذلك عن كل التأثيرات الأخرى، التي قد تمارسها جهات أخرى خارج السلطة بوسائل مختلفة، كالتهديدات والتشهير، أو عن طريق حشد الجمهور أو تغليط الرأي العام أو غيرها من الوسائل التي تستهدف توجيه القضاة في أحكامهم لاتجاه معين، أو صرفهم عنه.
حضرات السيدات والسادة؛
لقد شكلت سنة 2011 منعطفاً هاماً في دعم وتقوية ضمانات المحاكمة العادلة ببلادنا. فقبل عشر سنوات مضت، وبإرادة مولوية مباركة، تم استفتاء الأمة المغربية في إصدار دستور جديد، شكل ميثاقاً حقيقياً للحقوق والحريات الأساسية، يتلاءم مع المرجعية الكونية، ويساير عزم صاحب الجلالة نصره الله وتطلعه الدائم إلى استكمال منجزات أسلافه المنعمين في بناء دولة القانون والمؤسسات. وهو الدستور الذي كرس الاستقلال الفعلي للسلطة القضائية، وشكل تصديره وفصوله مرجعاً أساسياً في صيانة الحقوق والحريات، ولا سيما دعم حقوق المتقاضين وحسن تطبيق قواعد سير العدالة.
وبالنظر للارتباط الوثيق بين موضوع المحاكمة العادلة وحماية الحقوق والحريات، فقد أخذ مفهوم هذه الحقوق ومغزاها، بعداً استراتيجياً جديداً في هذا الدستور. الذي شكل مناسبة لتأكيد تشبث بلادنا بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دولياً. وأتاح إرساء أهم مداخل احترام هذه الحقوق والحريات، بسن مبادئ وضمانات دستورية ذات أبعاد قانونية وقضائية. تهدف في مقاصدها الكبرى إلى تكريس ضمانات محاكمة عادلة. لعل أهمها يتمثل في ترسيخ مبادئ حماية حقوق المتقاضين وحسن تطبيق قواعد سير العدالة، وضمان الرقابة البعدية للمقتضيات القانونية الماسة بالحقوق والحريات المضمونة في الدستور، من خلال آلية "الدفع بعدم دستورية القانون". علاوة على إرساء مبدأي "قرينة البراءة" و"إصدار الحكم داخل أجل معقول"، وجعلهما أبرز مؤشرات العدالة الناجزة انطلاقا من الفصول 23، 119 و120.
واقتناعاً من المجلس الأعلى للسلطة القضائية بأن حسن تدبير الزمن القضائي وتصفية الملفات يعتبران من أبرز آليات تعزيز الثقة في العدالة وتكريس المحاكمة العادلة، فقد جعل مدى تقيد المحاكم بالأعمار الافتراضية للقضايا أحد أهم انشغالاته، معتمداً إياه معياراً أساسياً في تقييم الأداء المهني للقضاة وتتبع مؤشراته.
حضرات السيدات والسادة؛
إن المحاكمة العادلة ليست ترفاً حقوقياً، ولكنها واجبٌ دستوري يهدف إلى أنسنة المنازعات القضائية، وحماية حقوق الأطراف في الدعاوى الجنائية، سواء المتهمين أو الضحايا. وتمكين كل طرف من الدفاع عن موقفه في ظروف مناسبة. مما يعزز مناخ الثقة وتحرير الطاقات. كما خلص إلى ذلك تقرير النموذج التنموي الجديد، والذي نحن مدعوون جميعاً، إلى التعبئة الشاملة للتفاعل الإيجابي مع مضامينه، وإقرارها في خطط عملنا. للسير قُدُماً ببلادنا إلى مستوى تطلعات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، والتي تكرس انتظارات المغاربة قاطبة.
حضرات السيدات والسادة؛
رغم الرصيد التشريعي الهام لمنظومتنا القانونية في مجال الحقوق والحريات، فإن الحاجة ما تزال ماسة لاستكمال المبادرات التشريعية، وتجويد القوانين وملاءمتها مع دستور البلاد والمواثيق الدولية. وإصدارها في حُلل حقوقية ترقى بها إلى مستوى المبادئ والضمانات الدستورية. وتنهل أيضا من التجارب المقارنة الرائدة والمتميزة في ضمان حقوق الدفاع، وتوفير ظروف المحاكمة العادلة.
ولعل هاجس بلوغ هذه الأهداف هو ما يجعل السلطة القضائية، ومعها هيئة الدفاع، تُتابعان باهتمام كبير المسار التشريعي لعدد من مشاريع القوانين التي تتصل بشكل مباشر بالحقوق والحريات، وفي مقدمتها مشاريع قانون المسطرة الجنائية ومجموعة القانون الجنائي والقانون المتعلق بالتنظيم القضائي والقانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون. والتي ننتظر أن تضيف نفَساً حقوقياً إلى المنظومة التشريعية القائمة.
حضرات السيدات والسادة؛
إن من أهم شروط تكريس ضمانات المحاكمة العادلة، وجود قضاة أكفاء متشبعين بثقافة حقوق الإنسان، وساعين إلى التطبيق السليم للقانون. كما يتوقف على محامين جُبلوا على روح الدفاع عن الحقوق والحريات، والمساهمة بمرافعاتهم ودفوعاتهم ومذكراتهم في تكريس مبادئ قضائية راسخة، في حسن إجراءات سير العدالة وحماية حقوق المتقاضين.
وفي إطار سعي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، منذ تنصيبه، إلى تطوير مهارات القضاة والانفتاح على الممارسات القضائية الفضلى، والاستفادة من الخبرة الأجنبية، بادر إلى توقيع اتفاقية توأمة مع المجلس الأعلى للعدالة ببلجيكا، وهي الاتفاقية التي وضعت ضمن أهدافها تقوية القدرات والتكوين على أساس المعايير الأوروبية في مجالي تعزيز آليات النجاعة القضائية وتقوية ضمانات المحاكمة العادلة بموازاة مع الفعالية، حيث تم الوقوف في عدة مناسبات عُقدت بمقر المجلس و بمقر محكمة النقض على تدارس الشروط النظرية والعملية للمحاكمة العادلة، في ورشات عمل شارك فيها مسؤولون قضائيون وقضاة وخبراء من الطرفين، مكنت من تسجيل الإيجابيات ورصد المعوقات لإدراجها ضمن برنامج العمل المشترك.
وقد أتاح المجلس مؤخراً لقضاة الحكم، المكلفين بالقضايا الجنائية المشاركة في دورات تكوينية لرفع قدراتهم في مجال حقوق الإنسان، يتم تنظيمها بشراكة مع رئاسة النيابة العامة، التي كانت سباقةً إلى تنظيم دورات مماثلة خلال السنة الماضية، عرفت نجاحاً وإقبالاً منقطعي النظير، مما يستوجب منَّا التنويه بهذه المبادرة وتقديم جزيل الشكر والثناء لأجله، إلى السيد رئيس النيابة العامة، والأطر المشرفة على البرنامج والأساتذة الكبار المساهمين فيه.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنه خلال السنة الماضية، شاءت الأقدار أن تشهد بلادنا، كباقي بلدان العالم، تفشي جائحة فيروس كورونا ــ كوفيد 19 ــ لزم معه الحفاظ على سير العدالة بوتيرة مُقنعة تؤمن تلبية الخدمات المطلوبة للمتقاضين بمستوى مقبول، حيث تم اتخاذ عدة إجراءات من بينها، كما تعلمون، اللجوء إلى البت في قضايا المعتقلين بواسطة تقنية المحاكمة عن بعد، وهو ما شكل محكاً حقيقياً لأسرة القضاء للحفاظ على ضمانات المحاكمة العادلة في هذه الظروف الاستثنائية والتي كان في مقدمتها احترام إرادة المعتقلين أنفسهم ودفاعهم لقبول إجراء المحاكمات عن بعد.
وإذ أنوه بمستوى التضحيات التي بذلها السيدات والسادة المسؤولون القضائيون والقضاة (رئاسة ونيابة عامة)، وأسرة الدفاع وأطر وموظفو كتابة الضبط والمؤسسات السجنية والشرطة القضائية وباقي مساعدي القضاء، فإني أغتنم هذه المناسبة لأجدد شكري لهم على تفاعلهم الإيجابي بما يمليه واجب الانخراط الجاد في تدبير الأزمات والمخاطر، بضمير وطني مُفعم بروح التضامن والإقدام، والذي أكدته النتائج المرضية التي حققتها العدالة منذ انطلاق الجائحة إلى الآن. كما أتوجه بجزيل الثناء لسيادة وزير العدل ومساعديه والسيد المندوب العام للسجون لأجل العمل الجبار الذين قاموا به للتهيئ المادي والبشري لعقد هذه الجلسات.
وأخيراً، إني لواثق من أن جمعكم المبارك هذا، والمبني على قناعة الحوار العلمي والتشبث القوي بالمبادئ والضمانات الدستورية واحترام الرأي والرأي المخالف، سيشكل مناسبة هامة للإفادة والاستفادة وتقاسم الأفكار والخلاصات، في ضوء الرصيد العلمي والمهني الغزير الذي راكمه المشاركون في هذه الندوة بعملكم المتواصل وعزمكم الدؤوب.
والشكر مرة أخرى للسيد النقيب وأعضاء مجلس هيئة أكادير على الدعوة، ولأجل التنظيم الجيد والاختيار الموفق للمواضيع.
ولذلك أدعو الله تعالى أن يبارك مسعاكم، ويكلل مبادرتكم بالتوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
زنقة الرياض، قطاع 16 حي الرياض، ص.ب 1789 الرباط
sg@cspj.ma