موجب الإحالة: الإخلال بالواجب المهني 05/03/2024
-إن وضع القيد المتعلق باحترام القاضي للواجب المهني عند البت في القضية يجب ألا يحول دون تخويله صلاحية الاجتهاد في النوازل المعروضة عليه وفق الضوابط المحددة والأصول المرعية والمبادئ المتعارف عليها ضمانا لتطبيق عادل للقانون.
-سلطة التأديب ليست جهة طعن في الأحكام القضائية، بل إن أوجه التظلم من الأحكام تنظرها المحاكم من خلال الطعون المرفوعة إليها ، وعليه فإن نسبة خطأ معين للقاضي في تفسير النصوص القانونية وترجيح حجج الأطراف ليس سببا موجبا لمسؤوليته التأديبية.
قضية السيدة: (س)
القاضية بالمحكمة الابتدائية ب***
مقرر عدد:
أصل المقرّر محفوظ بالأمانة العامة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية
بتاريخ 24 شعبان 1445 ه الموافق ل 05 مارس 2024
إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو يبت في القضايا التأديبية برئاسة السيد: مَحمد عبد النباوي بصفته رئيسا منتدبا للمجلس وبعضوية السادة: مولاي الحسن الداكي –محمد بنعليلو أحمد الغزلي– محمد زوك – محمد الناصر – خالد العرايشي – عبد الله المعوني – سعاد كوكاس – الزبير بوطالع – عبد اللطيف طهار – عبد اللطيف الشنتوف – يونس الزهري – عثمان الوكيلي – أمينة المالكي– نزهة مسافر؛
بحضور السيد منير المنتصر بالله: الأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
بناء على دستور المملكة ولاسيما الفصل 113 منه؛
وبناء على مقتضيات القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.40 بتاريخ 14 جمادى الثانية 1437)24 مارس 2016( كما تم تعديله وتغييره؛
وبناء على مقتضيات القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.41 بتاريخ 14 جمادى الثانية 1437 )24 مارس 2016( كما تم تعديله وتغييره؛
وبناء على النظام الداخلي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 09 نونبر 2017؛
ملخص الوقائـع
تتلخص وقائع القضية في أن السيد *** تقدم بشكاية إلى السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عرض فيها أنه يكتري محلين تجاريين من السيد *** ب*** وأنشأ فيهما شركة مختصة في إنتاج الحلول الصناعية للاستخدامات المتعددة، وأن الشركة تتعامل مع مجموعة من الدول الإفريقية التي تزودها بهذه المنتوجات، ومرتبطة معهم بمجموعة من الاتفاقيات، وأن نشاط الشركة الرئيسي يعتمد على الماء والطاقة الكهربائية اللذين كانت تتزود بهما من المحول والبئر المملوكين للمكري، وفجأة تم قطع هاتين المادتين بذريعة الزيادة في السومة الكرائية، مما أدى إلى توقف الشركة عن نشاطها، وضياع عدد من الصفقات داخل القارة الإفريقية، وأنه على إثر ذلك استصدر أوامر قضائية بإرجاع المادتين المذكورتين، كما قدم دعوى للمطالبة بالتعويض عن الضرر اللاحق به، وعينت السيدة *** قاضية مقررة في الملف، فأمرت تمهيديا بإجراء خبرة، وحدد الخبير المعين السيد *** مبلغ التعويض المناسب لحجم الضرر في مبلغ 2.639.998.00 درهم، ثم أمرت ذات القاضية تمهيديا بإجراء خبرة ثانية عين لها الخبير ***، وأنه أمام تماطل الخبير في إنجاز المهمة انتقل لديه رفقة محاميه وأحد مساعديه للاستفسار عن سبب هذا التأخير، فأخبره مساعد الخبير السيد *** بأن أحد القضاة بالمحكمة الابتدائية ب*** يدعى السيد *** يتدخل في الملف ويفرض على الخبير نتيجة الخبرة، وهو ما أخر إيداع تقريره، وبعد مرور أكثر من أربع جلسات متوالية وضع الخبير تقريره الذي حصر فيه مبلغ التعويض في مبلغ 1.305.853.54 درهم، ومباشرة بعد ذلك تم استبدال القاضية السيدة *** بالقاضية السيدة (س)، فتقدم دفاعه بمذكرة التمس فيها إجراء خبرة ثلاثية، وبعد حجز الملف للتأمل صدر حكم برفض الطلب، وأوضح بأن شكايته تنصب حول تدخل أحد القضاة لدى الخبير والتأثير عليه في إنجاز تقريره، وكذلك استبدال القاضية السيدة *** بالقاضية السيدة (س) التي تعمدت استبعاد تقريرين للخبرة، وكذلك الوثائق التي تثبت مسؤولية المدعى عليه في قطع مادتي الماء والكهرباء.
كما بعث السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ب*** بكتاب جاء فيه أن شركة *** قدمت دعوى أمام المحكمة الابتدائية ب*** في مواجهة المكري***، تلتمس فيها الحكم لها بتعويض عن الضرر الذي لحقها جراء قطعه مادتي الماء والكهرباء عن محل الكراء، فتح لها الملف عدد ***، وبداية عينت فيه القاضية ***، ثم بعد ذلك القاضية *** التي أمرت بإجراء خبرة أنجزها السيد *** الذي حدد قيمة التعويض في مبلغ 2.639.853.54 درهم، ثم أمرت بخبرة ثانية أنجزها الخبير *** الذي حصر التعويض في مبلغ 1.305.853.54 درهم، إلا أن الأستاذة (س) أصدرت حكما بتاريخ 08/06/2021 قضى برفض الطلب بعلة أنه بموجب عقد الكراء المبرم بين الطرفين بتاريخ 01/06/2021 تم تحمل الشركة المكترية بمستحقات استهلاكها لمادتي الماء والكهرباء، وإنجاز عقود تخصها مع الشركة المعنية بتزويدها بهما بموافقة قبلية للمكري، وأنه لا مبرر في استمرارها إلى ما لا نهاية في استغلال العداد الخاص بالمدعى عليه دون رضاه ودون أداء واجب استهلاكها للمادتين المذكورتين. وأورد السيد الرئيس الأول بأنه من خلال دراسته لوثائق الملف واطلاعه على القرار الاستئنافي الصادر بتاريخ 26/12/2018 في الملف الاستئنافي عدد *** والقرار الاستئنافي الصادر بتاريخ 20/02/2019 في الملف الاستئنافي عدد *** تبين أن المكري *** سبق أن مكن الشركة المكترية من مادتي الماء والكهرباء منذ بداية العلاقة الكرائية، وأنه لا ينبغي له قطعهما عنها بإرادته المنفردة بحجة عدم أدائها لواجبات الاستهلاك لما في ذلك من تعسف في استعمال الحق، وأنه كان يتعين عليه اللجوء إلى القضاء بسبب ذلك، وأنه سبق إجراء خبرتين في النازلة من أجل تحديد الأضرار الناجمة عن القطع، مما ينم على أن المحكمة اقتنعت ضمنيا بما جاء في مقال المدعية، ولاحظ بأن الأستاذة (س) حلت محل الأستاذة *** بعد رخصة مرضية لتتولى الأستاذة (س) جلسات المدني بصفة رسمية، علما بأن الأستاذة (س) تحوم حولها الشبهات، وأضاف بأن المشتكي أفاده بأن أحد مساعدي الخبير *** ويسمى *** أخبر محاسب الشركة السيد *** بأن الأستاذ *** يتتبع الملف ويتدخل لدى الخبير وهو ما أكده المحاسب المذكور.
وبعد إحالة الشكاية على المفتشية العامة للشؤون القضائية، راسلت السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ب*** لإجراء تحريات حول ما إذا كان القاضي السيد *** قد تدخل لدى كل من الخبير السيد *** والقاضية السيدة (س) من أجل التأثير في نتيجة الخبرة ومنطوق الحكم، فأفاد السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ب***، أنه استمع إلى الخبير السيد *** ومساعده السيد *** في محضرين منفصلين، فصرح الخبير بأنه أنجز المهمة الموكولة إليه وفقا لما تقتضيه المقتضيات القانونية، وأنه تم تحديد قيمة الأضرار بناء على القوائم التركيبية لشركة *** المودعة لدى مصلحة الضرائب والمحكمة التجارية ب***، وأضاف أنه لم يسبق للأستاذ *** أن تدخل لديه في تغيير مسار الخبرة موضوع الشكاية أو اتصل به بشأنها، وأن الاتصالات بينهما جد عادية، وتدخل في باب المجاملة والصداقة لا غير، وأنه لا علم له بما راج بين مساعده وممثل شركة *** ومن معه بمكتبه عند غيابه، كما أكد مساعده المذكور أعلاه بأنه لم يسبق أن صرح لمحاسب شركة *** بكون الخبير السيد *** قد تعرض للضغط في إنجاز مهمته من قبل الأستاذ *** أو تدخل لديه.
وعند الاستماع من طرف المفتشية العامة للشؤون القضائية للقاضية السيدة (س) أكدت أن الحكم موضوع الشكاية الذي أصدرته مبني على أساس قانوني، لأن عقد الكراء نص على تحمل الشركة واجبات استهلاك مادتي الماء والكهرباء وإنجاز عقود مع الشركة المزودة بموافقة قبلية من المكري، وحتى الأوامر الاستعجالية المستدل بها صدرت تارة لفائدة المدعى عليه وتارة أخرى ضده، وأن التزام المكري كان التزاماً تخييرياً، وأنه أبرأ ذمته لما طلب من القضاء الاستعجالي إجبار المكترية على إدخال عداد خاص بها وقبل صدور الأمر الاستعجالي بتاريخ 06 مارس 2019 في الملف عدد *** قضى بتسليمها الوثائق اللازمة من بينها تصميم البناء المطلوب من الشركة المعنية بتزويد الكهرباء، وتم تنفيذه بتاريخ 22 أبريل 2019، محضر التنفيذ عدد ***، تقر فيه أنها تسلمت موافقة المدعى عليه من أجل إدخال عداد الكهرباء، وأنها رفضت تسلم التصميم المصادق عليه، وأنه لم يثبت من خلال محضر التنفيذ قيام المدعى عليه بما يحول دون الحصول على العداد الخاص بالمكترية، ولم يباشر أي إجراء من أجل تعليق وقطع التيار الكهربائي. وبعد أن اطلعت القاضية المذكورة على قرار محكمة الاستئناف، أفادت بأن محضر المعاينة الذي استندت عليه المحكمة لم يعرض عليها عند البت في القضية ابتدائيا، ولم تثبت لها واقعة انتزاع الخيط الخاص بالتيار الكهربائي، ولأول مرة تعلم بوجوده بعد قراءة القرار الاستئنافي، وأن هناك مراسلة من شركة *** تشير إلى أن سبب تعليق التزويد بمادة الكهرباء يرجع إلى عدم أداء واجب الاستهلاك، وأن الحكم الذي أصدرته لم يكن موضوع أي تدخل من طرف أي جهة، وخلصت المفتشية العامة بعد البحث الذي أجرته أن طبيعة الإخلالات التي طالت الحكم الابتدائي موضوع التظلم، وإن اكتست طابع الخطأ في تطبيق القانون، فإن مرجعيتها وأساسها تجاهل المحكمة لقرار صادر عن محكمة الاستئناف قضى بإلغاء الأمر الاستعجالي الذي استندت إليه القاضية المعنية للقول بعدم ثبوت قيام المدعى عليه بقطع مادة الكهرباء عن محل المشتكية، كما تعتبر مؤشراً على مدى التقصير والإهمال في دراسة الملف وفحص المستندات بالتحقق من مآل الأمر الاستعجالي، ومحضر تنفيذه، علماً أنه كان ضمن وثائق الملف عند حجزه للتأمل وهي بذلك تكون قد ارتكبت إخلالاً مهنياً، سواء كان ذلك بشكل عمدي أو ناتج عن تهاون غير مستساغ، علماً أن كل إخلال بالواجبات المهنية يعد خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية عملاً بالمادة 96 من النظام الأساسي للقضاة، واقترحت إحالة السيدة (س) على المجلس الأعلى للسلطة القضائية للنظر فيما هو منسوب إليها من إخلالات.
وبناء على كتاب السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عدد *** المؤرخ ب*** بتعيين السيد *** الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف ب*** مقررا في القضية طبقا للمادة 88 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وبناء على تقرير السيد المقرر الذي أودعه بالأمانة العامة للمجلس، والذي تضمن تصريحات القاضية المعنية بالأمر كما سبق لها أن أدلت بها أمام المفتشية العامة للشؤون القضائية، وأضاف في تقريره أن محكمة الاستئناف التي عرض عليها الملف بعد استئناف الحكم من طرف المشتكية، أصدرت قرارا بإلغاء الحكم المتظلم منه، وتم الطعن فيه بالنقض من قبل طرفي الدعوى معا، وخلص السيد المقرر أن التصرفات والأفعال التي قامت بها السيدة (س)، القاضية بالمحكمة الابتدائية ب*** تتنافى ومبدأ الكفاءة الذي يلزم القاضي بإعطاء القضايا العناية الكاملة من خــلال الدراسة القبلية لها والبت فيها داخـل آجـال معـقولـة، وأنهما أمران ضروريان للحفاظ على ثقة المجتمــع في العدالة من أجل ضمان الخدمة القضائية، مع ممارسة المهام القضائية بكل عناية وكفاءة، مما تكون معه قد أخلت بواجباتها المهنية.
وبناء على قرار السيد الرئيس المنتدب بتاريخ 2 يناير 2024 المتخذ على ضوء اقتراحات لجنة التأديب، بإحالة السيدة (س) على المجلس الأعلى للسلطة القضائية طبقا للمادة 90 من القانون التنظيمي من أجل ما نسب إليها من إخلال بالواجب المهني وخرق مبدأ الكفاءة والاجتهاد.
وبناء على الاستدعاء الموجه للسيدة (س) للمثول أمام أنظار المجلس بتاريخ 05/03/2024.
وبناء على جميع وثائق الملف التأديبي والموضوعة رهن إشارة السيدة (س)، والتي اطلعت عليها المعنية بالأمر بمقر الأمانة العامة للمجلس، وأخذت نسخا منها حسب الإشهاد الموقع من طرفها بتاريخ 29/02/2024.
وبجلسة 05/03/2024 حضرت السيدة (س)، وأكدت أنها اطلعت على الملف التأديبي ومستعدة لمناقشة قضيتها، وبعد أن قدم المقرر السيد *** تقريره أمام المجلس، تم الاستماع إلى القاضية المتابعة التي أكدت تصريحاتها المدلى بها أمام المفتشية العامة للشؤون القضائية وأمام السيد المقرر.
وبعد المداولة طبقا للقانون
حيث أحيلت السيدة (س) القاضية بالمحكمة الابتدائية ب*** على أنظار المجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل الإخلال بالواجب المهني طبقا للمادة 96 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
وحيث إن القاضي، باعتباره مهنيا محترفا، ملزم قانونا بالالتزام بالواجبات المهنية المرتبطة بأداء مهمته القضائية، وكل إخلال منه بذلك يوجب قيام مسؤوليته التأديبية تأسيسا على الأحكام المقررة بمقتضى المادة 96 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، والتي تنص على أنه: " يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة، خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية".
وحيث إن وجه تظلم المشتكي بشأن إخلال القاضية المذكورة بواجبها المهني يكمن في خرقها للقواعد الموضوعية للإثبات من خلال تعطيلها لحجية الأوامر الاستعجالية المثبتة لواقعة قطع المدعى عليه لمادتي الماء والكهرباء مع إلزامه ــــــ بصفته محدثا للضرر ـــــــ بإرجاعهما، واستبعادها لتقريرين للخبرة المأمور بها من طرف القاضية السيدة *** التي كانت تتولى البت في ذات القضية، والحال أن الخبيرين المعيين من طرف المحكمة قد حددا مبلغ التعويض المستحق عن الضرر.
وحيث إنه خلافا لما ورد في التظلم، فالبين من الاطلاع على مجموع وثائق الملف التأديبي والحكم الصادر في القضية ذات المرجع أعلاه، أن القاضية المعنية ناقشت الأوامر الاستعجالية المستدل بها من المدعي ــــــ المشتكي حاليا ــــــ، وما أثبتته من واقعة قطع المدعى عليه للماء والكهرباء مع إلزام هذا الأخير بإرجاعهما، كما ناقشت عقد الكراء المبرم بين الطرفين، وما تضمنه من التزامات بالنسبة لكل واحد منهما، وخاصة ما تعلق بالتزام المدعي ـــــ المكري ـــــ بالتعاقد مباشرة لأجل التزود بمادتي الماء والكهرباء، وحددت من خلال تلك الوثائق جميعها التزامات كل واحد من أطراف العلاقة الكرائية، وأعملت الأحكام العامة الناظمة للعقد وقوته القانونية الملزمة لأطرافه، لتحدد من خلال ما ذكر جوهر التزامات المكتري وما يقابلها من جانب المكري، لتخلص في نهاية تحليلها ومناقشتها للنازلة وترجيحها للقوة الثبوتية للوثائق المستدل بها من أطراف الدعوى إلى نفي الخطأ في جانب الطرف المدعى عليه، اعتبارا لما لعقد الكراء من حجية بين أطرافه على نحو يلزم المكتري بالتعاقد بصفة شخصية لأجل التزود بالماء والكهرباء، واعتبرت أن مضمون الالتزام العقدي وفق ما تم تفصيله يرجح على ما انتهى إليه الأمر الاستعجالي المثبت لواقعة قطع مادتي الماء والكهرباء، وبذلك تكون القاضية السيدة (س) قد درست القضية من جميع جوانبها، وناقشت الدفوع المثارة من الخصوم، وقومت الوثائق المقدمة إليها في هذا الشأن، وبالتالي تكون قد وفت بما يفرضه عليها الواجب المهني من اجتهاد في دراسة القضية المعروضة عليها، علما أنه يكفي لوفاء القاضي بالتزامه المهني والأخلاقي بالاجتهاد عند البت في القضايا إعطاء القضايا التي ينظر فيها كامل العناية عند الدراسة ( المادة 15 من مدونة الأخلاقيات القضائية)، ومعالجتها ودراستها قبليا دون إهمال، مع الحرص على إعطائها الوقت الكافي من البحث والتمحيص، وعلى القيام بالمهام القضائية بمنتهى العناية ( التطبيق 6 من المادة 17 من مدونة الأخلاقيات القضائية)، وهو ما قامت به القاضية المتابعة تأديبيا في النازلة وفق ما سبق تفصيله أعلاه.
وحيث إنه من جهة ثانية، فإن التزام القاضي بواجبه المهني بمناسبة إصدار الأحكام يفرض عليه تجنب كل خرق خطير لقانون الموضوع (المادة 97 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة)، أي مراعاة القواعد الموضوعية ذات الصلة بالنظام العام وكذا الأحكام القطعية الدلالة، وبالمقابل فإن ما يرتبط بتطبيق المقتضيات القانونية غير القطعية الدلالة فإن للقاضي صلاحية الاجتهاد بشأنها تفسيرا وتأويلا تأسيسا على مبدأ استقلالية القضاء، وبالتالي فإن وضع القيد المتعلق باحترام القاضي للواجب المهني عند البت في الأقضية يجب ألا يحول دون تخويله صلاحية الاجتهاد في النوازل المعروضة عليه وفق الضوابط المحددة والأصول المرعية والمبادئ المتعارف عليها ضمانا لتطبيق عادل للقانون، كما أن القيد المذكور لا يجعل من سلطة التأديب جهة طعن في الأحكام القضائية، بل إن أوجه التظلم من الأحكام تنظرها المحاكم من خلال الطعون المرفوعة إليها، وعليه فإن نسبة خطأ معين للقاضي في تفسير النصوص القانونية وترجيح حجج الأطراف ليس سببا موجبا لمسؤوليته التأديبية، إذ لكل طرف لم يرتض نتيجة الحكم الصادر في قضيته أن يطعن فيه، بل ولهذا وجدت أصلا طرق الطعن في الأحكام، وبناء على ذلك فالمجلس وهو يبت كهيئة تأديبية لا يمارس رقابته على القضاة فيما ينتهون إليه في قراراتهم بحسب فهمهم وقناعتهم، انطلاقا من الحرية التي لهم في تطبيق القانون، ما عدا في حالة الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف، أو الخرق الخطير لقانون الموضوع بشكل متعمد أو نتيجة تهاون غير مستساغ، وذلك متى ثبت الخرق بموجب حكم قضائي نهائي (قرار المجلس الدستوري عدد 992.16 بتاريخ ......)، وبالمقابل فإن المجلس يراقب التزام القاضي بواجباته المهنية من خلال التثبت مما إذا كان قد أوكل للملفات المعروضة عليه وكذا للإجراءات التي أمر بها العناية والحرص اللازمين، وترتيب الجزاءات التأديبية جراء إغفال ذلك.
وحيث إنه تأسيسا على ذلك، فإن تقدير القاضية المتابعة تأديبيا لحجية الوثائق المستدل بها، وترجيح بعضها على البعض الآخر، وتطبيق المقتضيات القانونية المؤطرة للنزاع بشأنها، هي أمور تدخل في صلب الصلاحيات الممنوحة للقضاة في إطار الاجتهاد المخول لهم، والذي لا يدخل مبدئيا ضمن النطاق التأديبي إلا عند ثبوت انحراف أو إهمال غير مستساغ عند البت في تلك القضايا.
وحيث إنه من جهة أخرى، فإنه فيما يخص الشق الثالث من الشكاية المرتكز على عدم اعتماد القاضية مصدرة الحكم للنتيجة التي انتهى إليها الخبيران المنتدبان تمهيديا لتقدير التعويض المستحق عن الضرر المدعى فيه، فإن البين من مراجعة الحكم الصادر في القضية أن القاضية المتابعة حاليا ليست هي من أصدر الحكمين التمهيدين بشأن تعيين الخبيرين، بل صدرا عن قاضية أخرى وهي السيدة ***، تعبيرا من هذه الأخيرة عن وجهة نظرها في القضية، وهي وجهة نظر لا تلزم القاضية التي أصدرت الحكم الفاصل في الموضوع، إذ يلزم كل واحد من القضاة، أن يفصل فيما يعرض عليه من أقضية بكل استقلالية وشجاعة أدبية، فالقاضي يمارس مهمته القضائية دون الخضوع لأي ضغط أو تلقي أي أوامر أو تعليمات من أي جهة كانت، ما عدا ضميره المهني والتزامه بالتطبيق العادل للقانون (المادة 3 من مدونة الأخلاقيات القضائية)، ويحرص على أن تتسم القرارات والإجراءات المتخذة بالشرعية والولاء للقانون وحده؛ ويؤدي القاضي مهامه القضائية بشكل مستقل عن تأثير باقي زملائه القضاة، وذلك في كل ما يتعلق بالقرارات والإجراءات التي يتم اتخاذها، مع استحضار ما يفرضه قانون المداولة من الدفاع عن القناعات القانونية (التطبيقين 2 و5 من المادة 5 من مدونة الأخلاقيات القضائية)، كما أن جسامة المسؤولية التي يتحملها القاضي بصفته حامياً لحقوق وحريات الأشخاص وأمنهم القضائي تفرض عليه الوفاء بالتزاماته دون أي تردد أو خوف أو خجل أو قلق (المادة 19 من مدونة الأخلاقيات القضائية)، وأن يصدر القاضي الأحكام وفق القناعة الشخصية والضمير المهني والتطبيق العادل للقانون، دون الأخذ بعين الاعتبار ما قد ينتج عنها من حرج أو ضيق أو استنكار(التطبيق 2 من المادة 20 من مدونة الأخلاقيات القضائية).
وحيث إنه اعتبارا لما ذكر، تكون عناصر الإخلال بالواجب المهني غير قائمة في النازلة، مما يتعين معه التصريح بعدم مؤاخذة القاضية المتابعة من أجل ما نسب إليها.
لأجلـه
قرر المجلس عدم مؤاخذة السيدة (س) القاضية بالمحكمة الابتدائية ب*** من أجل ما نسب إليها.
توقيع عضو المجلس المكلف بصياغة القرار | الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية |
يونس الزهري | مَحمد عبد النباوي |