حضرات السيدات والسادة الأكارم كل باسمه وصفته؛
بمشاعر يحذوها الحنين والفخر نتواجد اليوم برحاب هذا المقام العلمي المحمود، وفي أحضان هذه المدرجات الغالية على قلوبنا، عرفانا بجميلها وبرا بعطائها، لنتقاسم مع أساتذتنا الأجلاء وزملائنا الأفاضل وأبنائنا البررة من طلبة العلم بها، خلاصات تجارب حظينا باكتسابها في هذا البلد الأمين الآمن، بفضل العناية الإلهية السابغة والحكمة الملكية الرشيدة والقيم المواطنة الراسخة.
لعل مبادرة مختبر القانون العام وحقوق الإنسان بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية ومعه المركز الوطني للدراسات القانونية لتنظيم هذه الندوة بشراكة مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، هي مناسبة نجدد معها التأكيد على إيماننا بأهمية ترسيخ معاني المؤسسات الدستورية المواطنة، واستشعارنا مسؤولية المساهمة في بناء المستقبل من خلال تأهيل أجيال كفيلة بمواصلة مسيرة النماء والعطاء.
حضرات السيدات والسادة الأكارم؛
لقد شكل دستور المملكة المغربية الشريفة لسنة 2011، عن حق، قيمة نوعية، تكرس معه مفهوم دولة القانون والمؤسسات في جميع صوره، بدءا بالنص على فصل السلط وتوازنها وتعاونها، مرورا بتعزيز حماية الحقوق والحريات كما هي متعارف عليها دوليا، وانتهاء بإرساء مبادئ وآليات الحكامة الجيدة والديمقراطية التشاركية، بحيث احتلت هذه المفاهيم حيزا مهما في مضامين الدستور ومقتضياته.
وإذا كان جوهر دولة الحق والمؤسسات هو سيادة حكم القانون على كافة سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن الأمن القانوني، الذي يعتبر أهم مبادئها، يظل هاجسا تسعى إلى تحقيقه كل الدول الديموقراطية بمختلف الوسائل والآليات، بالنظر لكون ترسيخ الثقة في المؤسسات يمر أولا عبر توطيد هذا الأمن القانوني، الذي يعقبه بالضرورة أمنها القضائي في مرحلة لاحقة.
ولعل الاختيار السديد لموضوع الأمن القانوني والقضائي لهذه الندوة، وفي هذا الوقت بالذات، تزامنا مع مرور سنة على تقديم تقرير النموذج التنموي الجديد أمام جلالة الملك نصره الله، من خلال ما خلصت إليه مضامين التقرير المذكور، لهو تعبير صريح ومسؤول على انخراط الجميع في إنجاح هذا الورش، الذي راهن عليه صاحب الجلالة حفظه الله، في هذه المرحلة الدقيقة، لوضع المغرب على مسار التقدم، وتحقيق العيش الكريم والرفاهية التي يستحقها المواطن المغربي، عبر إطلاق جيل جديد من المشاريع والإصلاحات المندمجة، والتي تجعل هذا المواطن في صلب اهتماماتها.
وقد كان للعدالة عموما، وللقضاء بشكل خاص، حيز هام في مضامين تقرير النموذج التنموي الجديد، إذ لا يمكن لتنمية أن تتحقق بدون أمن قضائي، ولا يمكن لهذا الأخير أن يسود إلا مع حقوق محمية وحريات مصونة واستثمار مؤمن وثقة في المؤسسات. فالأمن القضائي، كما لا يخفى على أحد، هو مؤشر على الثقة في الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها السلطة القضائية، وما ينتجه القاضي من أحكام في إطار مهمته الدستورية المنوطة به، والمتمثلة في التطبيق العادل للقانون، كما نص على ذلك دستور2011.
ولعل هذا هو ما جعل القضاء دوما في صلب العناية المولوية السامية، حيث جعل إصلاحه في صدارة الأوراش الكبرى التي يقودها جلالته أيده الله بنصره، كما عبر عن ذلك في العديد من المناسبات، منها ما جاء في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2013 عندما حظي ميثاق إصلاح منظومة العدالة بموافقته السامية: "ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء، وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم. وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة، كمحفز على التنمية والاستثمار. وفي هذا الصدد، نسجل بارتياح التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية. حيث توافرت له كل الظروف الملائمة. ومن ثم، فإنه يجب أن نتجند جميعا، من أجل إيصال هذا الإصلاح الهام، إلى محطته النهائية". (انتهى النطق الملكي السامي).
فتعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون والرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحديا وجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مختلف المجتمعات.
على أن تحقيق التنمية المتوخاة، والتي جعلها تقرير النموذج التنموي هدفا أساسيا لتوطيد دولة الحق والقانون، يظل رهينًا بضرورة إزاحة وتجاوز العوائق التي تحول دون تكريس دعائم دولة الحق والمؤسسات ذات الصلة بالعدالة، وفي مقدمتها ضمان احترام تراتبية القواعد القانونية، وتعزيز الرقابة القضائية على شرعية القرارات الإدارية، وضمان التوافق بين التشريعات الوطنية والالتزامات الدولية للمغرب، ومراجعة القوانين المتجاوزة أو غير القابلة للتطبيق.
ومن هنا، يتجلى وبكل وضوح أن القضاء، الذي يسير قدما في الاتجاه الصحيح لتثبيت أسس استقلاله لكونه الملجأ الحصين لإحقاق الحقوق ورفع المظالم، لا يمكن أن يبلغ مقاصده إلا بالقانون، باعتباره التعبير الأسمى لإرادة الأمة، على أن يستجمع مقومات أمنه، وعلى رأسها الوضوح والتوقعية والمساواة وعدم رجعية مقتضياته، ومسايرته للتطورات والتغيرات التي تفرض مواكبة المستجدات التشريعية على الصعيد الدولي، واستيعاب الأشكال الجديدة لأنماط التقاضي القائمة على استثمار التكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية التي يشهدها العالم، لما لذلك من أثر مباشر في تعزيز الشفافية والولوج إلى المعلومة، والتحكم في الآجال، والقضاء على المخلف، وتجاوز البطء في التقاضي، والرفع من جودة الاجتهاد لتحقيق الأمن القضائي.
وهو ما حدا بالمجلس إلى الانخراط بقوة في تنزيل مشروع التحول الرقمي لمنظومة العدالة مع باقي الشركاء، وهو الورش الذي يدخل ضمن توجهات المجلس الواردة في مخططه الاستراتيجي 2021 – 2026، على غرار باقي المشاريع الاستراتيجية الكبرى التي أطلقها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها مشروع النموذج التنموي الجديد، ومشروع إصلاح الإدارة وتجويد خدماتها، ومشروع تحقيق التنمية المستدامة، ومشروع تعزيز مناخ الأعمال بالمملكة.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
لا ينتابني أي شك في أن هذا اللقاء العلمي القيم سيجيب عن تساؤلات لا زالت في حاجة إلى إغناء النقاش بشأنها، واقتراح سبل تعزيز الأمنين القانوني والقضائي، باعتبارهما معا من ركائز التنمية المستدامة التي نطمح إليها جميعا، وأنا على يقين أيضا أن المداخلات التي سيشارك بها خبراؤنا في هذه الندوة، ستشكل، لا محالة، قيمة تنضاف إلى تراكمات وتجارب مؤسساتنا، وستساهم بالتأكيد في تنزيل أمثل لتوصيات النموذج التنموي الجديد.
والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
زنقة الرياض، قطاع 16 حي الرياض، ص.ب 1789 الرباط
sg@cspj.ma