السيدات والسادة الأفاضل؛
المرأة مصدر كل شيء، قالها سقراط، ونقول من بعده أنها، إن هي أكِرمت صارت أمنع حصون المجتمع والعالم بأسره، فاسمحوا لي في البداية أن أعبر للقائمين على هذا اللقاء المتميز عن إعجابي بهذه الدقة في اختيار موضوع هذه المائدة المستديرة، " المرأة في منظومة العدالة من موضوع إلى فاعلة في التغيير والتطوير"، ذلك أنه يتجاوز مجرد عنوان رتيب للقاء دراسي علمي، ليرقى إلى قصة قصيرة تحكي نجاح المرأة المغربية في سائر المجالات، ومنها القضاء الذي كان سباقا لاحتضان النساء إقرارا بمكانتهن الأساسية ضمن مكونات المجتمع.
فحري بنا أن نفخر، بداية، بأن التاريخ الحديث لدخول أول امرأة عربية إلى القضاء يبدأ من المملكة المغربية، حيث تولت السيدة أمينة عبد الرازق هذه المهنة النبيلة بداية الستينات من القرن الماضي، كإشارة قوية على القناعة الراسخة بأن التنمية المستدامة لا يمكنها أن تتحقق
إلا بسواعد الرجال والنساء وجهودهم على حد السواء.
ولعل هذه المكانة التي حظيت بها النساء المغربيات على مر التاريخ عموما، وعقب استقلال بلادنا على وجه الخصوص راجع بالأساس إلى عناية ملوك المغرب الأفذاذ على مر التاريخ بالمرأة وحرصهم على الانتصار لحقوقها، حيث لم يدخروا جهدا في التمكين لها والدفع بمشاركتها الفعلية في مسلسل النماء، من خلال فتح الباب أمامها لولوج مراكز صنع القرار، وتمكينها من احتلال المكانة التي تستحقها في مختلف المجالات، وتقليدها المناصب القيادية المؤهلة لها.
وقد سجل التاريخ المغربي، بمداد ذهبي في محطات كثيرة، الرعاية الأبوية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، لقضايا المرأة، كما رسخ تحكيمُه السديد مساواتها بالرجل وإنصافها، سواء عند تعزيز دورها في مدونة الأسرة، أو حين مأسسة مكتسباتها بمقتضى قانون الجنسية والحالة المدنية وكذا بعد تمكينها من حقوقها ورفع جميع أشكال الميز عنها.
حضرات السيدات والسادة؛
لقد أدركت بلادنا مبكرا أن رفع شأن المرأة في ظل مجتمعات محافظة، تغلب فيها الصورة النمطية للمرأة المستضعفة، يمر عبر تبني آليات النهوض بحقوقها وحمايتها، والمتمثلة في تكريس مبدأ المساواة من جهة، واعتماد آلية التمييز الإيجابي لفائدتها من جهة أخرى.
فمبدأ المساواة في الحقوق والمسؤوليات والفرص لا يعني بالضرورة أن يصبح النساء والرجال متساوين في كل شيء، بل المقصود هو ألا تتأسس حقوقهم وإسناد المسؤولية إليهم وتمكينهم من الفرص، بناء على جنسهم وإنما على قدراتهم وكفاءاتهم.
وتعزيزا للإصلاحات الدستورية والتشريعية التي تحققت وتكرس معها مبدأ المساواة بين الجنسين، تم النص صراحة على مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في دستور 2011، حيث جاء في ديباجته أن "المملكة المغربية تلتزم بمحاربة وحظر جميع أشكال التمييز ضد أي شخص بسبب الجنس".
كما نص الفصل 19 منه على أن "يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية" وأن "تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء "، من خلال هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، تحدث لهذا الغرض.
على أن المجال لا يتسع لاستعراض مجموع الاتفاقيات الدولية المتنوعة التي حرص المغرب على الانخراط فيها وسعى دوما للوفاء بالتزاماته بها من خلال ملاءمة تشريعاته لمقتضياتها.
ولعل مبدأ المساواة وحده ما كان ليحقق ما تم تسطيره من استراتيجيات وأهداف وبرامج لولا تبني آلية التمييز الإيجابي لفائدة المرأة، من خلال ضمان ولوج النساء لبعض مراكز القرار الهامة، والتي تتجسد أهم صورها في ما تضمنه الفصل 115 من الدستور عندما ضمن تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين، بما يتناسب مع حضورهن داخل السلك القضائي. وهي الآلية التي استطاعت معها بلادنا الدفع في اتجاه تغيير الوعي المجتمعي الذي لم يكن متعودا على تبوء المرأة لمثل هذه المناصب؛ حيث تم تحقيق النجاح المتوخى من ذلك، واستطاعت المرأة أن تثبت جدارتها على أرض الواقع بل وتفوقها على زملائها من الرجال أحيانا.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
لعل التعبير الملموس لانتقال المرأة القاضية من مجرد موضوع إلى فاعلة في التغيير تعكسه، في الواقع، الأرقام التي أصبحنا نسجلها بارتياح بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية داخل منظومتنا القضائية، فقد عرف عدد النساء القاضيات قفزة نوعية في السنوات الأخيرة سواء على مستوى الولوج إلى القضاء أو تولي مهام المسؤولية وطنيا ودوليا.
فقد بلغ عدد النساء القاضيات خلال هذه السنة 1068 قاضية من مجموع 4218 أي بنسبة 25 % من قضاة المملكة، بينما يشغل ما نسبته 78% منهن منصب مستشارات بمحاكم الاستئناف العادية بما مجموعه 829 مستشارة، أما على مستوى المحاكم المتخصصة فتبلغ نسبة النساء القاضيات في دائرة محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء وحدها ما يناهز 58% من مجموع قضاة ومستشاري هذه الدائرة.
هذا، وتتوزع القاضيات المغربيات جغرافيا اليوم على مستوى محاكم الموضوع في مختلف مناطق المغرب، بل إن منهن من تحملن مسؤولية خدمة الوطن في جميع المواقع وفاء بقسمهن، فنجدها رئيسة أولى بمحكمة الاستئناف بورزازات، ورئيسة بالمحكمة الابتدائية بالعيون، ورئيسة بالمحكمة الابتدائية بسوق السبت أولاد نمة، ووكيلة للملك بوجدة ... واللائحة تطول.
وتجدر الإشارة إلى أن المرأة القاضية أبدت استعدادا لافتا لتحمل أعباء هذه المهنة المضنية اعتبارا من المعهد العالي للقضاء، فصارت الملحقات القضائيات يحتلن المراتب الأعلى في امتحانات التخرج وأحيانا المراتب العشرة الأولى تباعا في بعض الأفواج الأخيرة.
وإذا كانت الأرقام المسجلة على مستوى حضور القاضيات في مراكز مسؤولية تسيير المحاكم لا تعكس حجم تواجدهن النوعي والعددي به، فإن الأمر يُعزى أساسا إلى عدم مبادرتهن إلى الترشح لمناصب المسؤولية، لالتزاماتهن العائلية، مما حذا بالمجلس إلى وضع توجهات استراتيجية تسعى إلى ضمان المناصفة في إسناد المسؤوليات من خلال تشجيع النساء القاضيات وتحسيسهن بأهمية تقديم ترشيحاتهن وتحفيزهن لتولي هذه المناصب بالنظر لحاجة السلطة القضائية إلى دعمهن لمسار الإصلاح الذي يقوده صاحب الجلالة نصره الله.
ومع ذلك، فإن تواجد النساء القاضيات بمراكز المسؤولية عرف ازديادا مضطردا خلال السنوات الأخيرة، حيث بلغ عدد المسؤولات القضائيات 18 مسؤولة منهن ثلاث قاضيات عضوات بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئيسة أولى لمحكمة استئناف، وخمس رئيسات لمحاكم ابتدائية وتسع وكيلات للملك لديها. كما استطاعت القاضيات بفعل مثابرتهن وتفانيهن رئاسة ما مجموعه) 8( ثمان هيآت ضمن غرف وأقسام محكمة النقض، والمساهمة بذلك في الأدوار الطلائعية لهذه المحكمة في توحيد الاجتهاد وضمان الأمن القضائيين.
هذا، ويحصي اليوم المجلس)38( ثمانية وثلاثين نائبة للمسؤولين القضائيين، منهن 2 نائبتان لرئيسين أولين لمحاكم الاستئناف، و)20 (نائبة لرئيس محكمة ابتدائية، و)16 ( نائبة أولى لوكيل الملك.
أما على مستوى المجلس الأعلى للسلطة القضائية فقد كان حضور المرأة متميزا، حيث يبلغ عدد النساء العاملات به عموما) 178( مائة وثمانية وسبعون امرأة، أي ما يقارب نصف عدد العاملين به، يتوزع دورهن فيه بين رئيسات قطب وشعب ووحدات، وقاضيات، ومحافظات قضائيات، تنضاف إليهن نساء من مختلف فئات الأطر والموظفين، وهو ما يدعونا، بالمناسبة، إلى الاعتزاز بسير المجلس في نهج الإنصاف الذي يقره الدستور وتستحقه المرأة.
حضرات السيدات والسادة الأكارم؛
إن تقلد القاضية لمناصب المسؤولية لم يقتصر على المستوى الوطني فحسب، بل إنها استطاعت بكفاءتها خوض تجارب دولية ناجحة حظيت فيها بالتقدير والعرفان، حيث انتقلت بين تولي منصب أول رئيسة لمجلس الاستئناف بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة-اليونيسكو، إلى عضوية المحكمة الإدارية الإفريقية، إلى عضوية لجان دولية كلجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، إلى تولي منصب قاضية الاتصال بالخارج، وهو ما يزيد ثقتنا في قدرات نسائنا على القيادة والتغيير والتطوير والمساهمة في الرقي ببلادنا إلى مصاف الدول الرائدة في مجال حقوق المرأة.
وفي الختام، لا يسعني من هذا المقام الذي ساهم رجالاته ونساؤه في إنتاج الترسانة القانونية الحقوقية التي نعتز بها، إلا أن أشد - بحرارة المؤمن بقدرة المرأة على كسب الرهانات الصعبة- على أيدي كل من خطط ونظم وساهم في إنجاح هذا اللقاء، وآخر دعواتي لكل امرأة، صارت في خارطة المجد إطارا، بكل التوفيق الذي تستحقه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مَحمد عبد النباوي
الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
زنقة الرياض، قطاع 16 حي الرياض، ص.ب 1789 الرباط
sg@cspj.ma